الربيع في زمن الجائحة
- بقلمماريا بوبوفاماري
شِلي
- ترجمةدلال الرمضان
هنالك حل واحد للغز
الحياة المعقد : تطوير أنفسنا، والمساهمة في إسعاد الآخرين.
قبل نصف قرن من تأمل الشاعرالأمريكي والت ويتمان -بعد تعرضه إلى سكتة
دماغية أدت إلى إصابته بالشلل- في الشيء الذي يُضفي قيمة على الحياة، أدرجت
الكاتبة الإنكليزية ماري شِلي (30 أغسطس 1797 - 1 فبراير 1851) السؤال ذاته في
روايتها الآسرة التي حملت عنوان "الرجل الأخير"، وكتبتها شِلي في أشد
فترات حياتها كآبة وسوداوية، وذلك بعد وفاة ثلاثة من أبنائها، الذين تُوفي اثنان
منهم بفعل مرض معدٍ اجتاح البلاد في تلك الفترة، عقب وفاة زوجها الشاعر پرسي بيش
شِلي على إثر حادثة غرق قاربه.
من عمق ذلك الأسى الدفين، وبين صفحات تلك الرواية التي تحكي عن جائحة
تبدأ باكتساح الجنس البشري واحدًا تلو الآخر، لتترك في نهاية المطاف ناجيًا
وحيدًا، هو بطل الرواية، تطرح شِلي سؤالها الجوهري، ألا وهو: لماذا نعيش؟
عبر إجابتها عن هذا السؤال، تُخرج شِلي نفسها من تلك الهوة وتواصل
حياتها، لتصبح الكاتبة المتفردة بين أقرانها، إذ تمكنت من الصمود أمام كُتاب الأدب
الرومانسي، فصاغت النثر بجمال شاعري مذهل، كما تمكنت بجهودها الفردية من تحويل اسم
زوجها، الذي كان -إلى حد ما- غامضًا، إلى رمز من رموز الأدب في ذلك الحين، وذلك
بفضل إخلاصها، وجهودها المتواصلة دون كلل في التحرير والنشر، تمجيدًا لشعره.
حددت شِلي الإطار الزمني لروايتها المتبصرة "فرانكنشتاين"
بقرن سابق لوقت كتابتها -والتي كتبتها قبل عقد من كتابة الأخرى- في حين تجري أحداث
رواية "الرجل الأخير" بعد ربع ألفية من الزمن في المستقبل، أي في العقد
الأخير من القرن الحادي والعشرين، وتبلغ الأحداث ذروتها في عام 2092 الميلادي، في
الوقت الذي تصادف فيه الذكرى المئوية الثالثة لميلاد زوجها الشاعر پرسي شِلي. أما
شخصية الراوي في "الرجل الأخير" فهي شخصية الشاب المثالي لايونل ڤيرني،
وهي من أكثر الشخصيات تغلغلًا في كلتا حالتي المعاناة العميقة لعيش الإنسان،
والجمال اللامتناهي للحياة، إذ كان ڤيرني أقرب الشخصيات إلى ماري شِلي في رزانتها
وحذرها. وكأن الكاتبة رسمت بورتريه نفسيًّا لذاتها، ففي الوقت الذي تكتسح فيه
الجائحة العالم، وتأخذ أحبته واحدًا تلو الآخر، يعود بطل الرواية إلى منزله ملتمسًا
الأمان، كحال الطيور التي تجبرها العاصفة على العودة إلى أعشاشها، حيث تطوي
أجنحتها بطمأنينة وهدوء. هنا، في هذا السكون الغريب، وبعد أن تجرد من المشاغل
الاعتيادية والمشتتات الاجتماعية، يجد لايونل نفسه متأملًا في مغزى الحياة. إذ
يقول :
كم أضحى الهائمون حمقى. أولئك الذين غادروا الأعشاش، فوقعوا في شباك
المجتمع، ليدخلوا في ما يُسميه رجال العالم "حياة". إنها متاهة الشر،
ومكيدة العذاب المتبادل.
إن فعل العيش، وفقًا لما تعنيه الكلمة، لا يعني أن نلاحظ ونتعلم فقط
. بل ينبغي أن نشعر أيضًا. علينا ألا نكون مجرد متفرجين على الحدث، بل أن نكون
جزءًا منه. يجب ألا نكتفي بالوصف، بل أن نكون موضوعًا له. ينبغي أن يسكن الأسى
صدورنا، ولا بد للشك المرير والأمل الكاذب كم أن يشكل أيامنا. أتراه يحنُّ إلى هذا
الوجود المحموم، ذاك الذي يعلم ماهية الحياة؟
هأنذا قد عشت، وقضيت أيامًا ولياليَ من البهجة. لألجأ للآمال
الطموحة. والآن... أغلق باب العالم، ثم أبني أسوارًا عالية تحول بيني وبين المشهد
المضطرب الذي تدور أحداثه حولي.
بالتوافق مع مقولة الشاعر ويتمان: "بعد أن تستنزف كل ما
هنالك من عمل وسياسة، وتشارك وحب، وما إلى ذلك، لتجد أن لا شيء بين هذه الأشياء
يرضيك، أو حتى يمكنك احتماله على الدوام، فما الذي يبقى إذًا؟". يسأل
الشاعر الأمريكي سؤاله هذا عبر الزمان والمكان، ثم يجيب نفسه بالقول: "الطبيعة
هي الباقية". لا يجد بطل رواية شِلي معنى الحياة في دوامة العالم
الذي صنعه الإنسان بصورته الزائفة، بل في بساطة الحاضر الخلاق في سيمفونية الطبيعة
اللا متناهية :
لنبحث عن السلام... قرب خرير الجداول، وتلويحات الأشجار اللطيفة،
ورداء الأرض الجميل، ونصعد إلى عظمة السماوات، ولنترك الحياة التي قد نعيشها.
في ذروة الجائحة المميتة، تبدو الطبيعة مصرة على التأكيد على مرونة
الحياة، إذ يأتي الربيع محملًا برشقات من الجمال الذي لا يمكن لقوة أن تصده، غير
آبه بمعاناة الإنسان، ومرممًا لها في الوقت ذاته. يستعيد لايونل ثقته بالنجاة،
والجمال، وبجدوى الحياة، وذلك عبر مراقبة انفعال الطبيعة العفوي في تعبيرها متناهي
الصغر، وعبر الاستسلام لها في الوقت ذاته. قبل زمن من نظم الشاعرة إيميلي ديكنسون
قصائد تصف الربيع، كتبت شِلي:
ها قد ولى الشتاء ليأتي الربيع، وقد قادته الشهور، فيعيد الحياة إلى
كل مكونات الطبيعة. وها هي ذي الغابات تكتسي باللون الأخضر، والعجول الصغيرة
تتراقص فوق العشب الذي نبت للتو، والظلال الرقيقة للغيوم المجنحة بالرياح تسير فوق
حقول الذرة الخضراء، إذ يردد طائر الوقواق الناسك نداءاته الرتيبة طوال الفصل،
ويملأ العندليب -طائر الحب والمساء- الغابة بصوته العذب، فيما يتوانى كوكب الزهرة
عند غروب الشمس الدافئ، وتنبسط الأشجار الخضراء الفتية على طول خط الأفق الصافي.
ومع هذا التشارك الحر مع عالم الطبيعة غير البشري، يستخلص بطل رواية
شِلي جوهر كينونة الإنسان. إذ يقول:
هنالك
حل واحد للغز الحياة المعقد : تطوير أنفسنا، والمساهمة في إسعاد الآخرين.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق