ضع اعلان هنا

اخر الأخبار

بثينة العيسى تكتب: الكتابة بين العاديّ والاستثنائيّ

 يحلمُ كثير من الشعراء بالسفر باللغة من الميتافيزيقي إلى الأرضي، بكتابة العاديّ. ويشتهي كثير من الروائيين كتابة حكاية لا يحدثُ فيها أي شيء. أحيانًا يضيفون؛ مثل الواقع. الأمر الذي يبدو مثل صفعة.


ترى، أين تكمن الجاذبية في كتابة غياب الحدث بدلًا من حدوثه؟ وكيف يمكن أن تكون حمامة زوسكيند أكثر إغراءً للمحاكاةِ من رواية العطر. ثم أفكّر بأن الأمر قد يكون رغبة في الأصالة، كيف لا أفهم رغبة كاتب في كتابة شيءٍ يشبهه؟ وإذا كان الواقع شاحبًا، أليس مشروعًا للكاتب أن يكتب عن الشحوب؟


لكن المشكلة هي الكيفية؛ إذ كيف ستجعل الملل ممتعًا لي بما يكفي لكي أقرأه؟ هل ستكتب سأم موراڤيا الضاج بالمسرات، أم ثلاثية هنري ميلر التي تراوح في مكان واحد (لم أكملها)، أم حمامة زوسكيند التي - مهما كابرنا كانت حدثًا جسيمًا في حياة بطلها - أم ستكتب شيئًا على غرار غودو، حيث لا شيء يحدث.. مرّتين؟


إن المأزق هنا هو سؤال التعويض، فالعمل الفني قائم على سلسلة من الموازنات. في الشعر مثلًا، إذا ضحيت بالوزن ستطالبك القصيدة باشتغال مضاعف في الغنائية والجرس والمفارقات واستعارات لا تشبه أي شيءٍ قرأناه. إن القارئ يقيمُ مع الشاعر صفقة. سأتنازل معك عن التقاليد الشعرية القديمة، لكن أدهشني.


في الرواية، عندما تكتب عن غياب الحدث، أي تعويض ستقدم للقارئ؟ (ربما كانت ببغاء فلوبير نموذجًا ناجحًا لرواية من هذا النوع)، لكن أرجوك، لا تعوض الحدث باللغة. على قولة بوكوفسكي؛ لا تفعلها. أبوس راسك ياخي. إن الذهاب إلى تخوم اللغة هو الخيار الأسهل، لكنّ الحقيقة أن نسيجًا لغويًا ضاجًا بالزخرفة لا يكفي لصنع رواية، مثلما أن حكاية مشوقة يمكن تلخيصها أثناء إعداد فنجان قهوة ليست رواية أبدًا.


أشعرُ أحيانًا بأن ثمة خلط بين كتابة "حكاية لا يحدث فيها أي شيء"، وبين كتابة "العادي والمألوف"، حيث الأول ليس مرادفًا للثاني. وربما سيكون من المفيد أن نتذكر بأن كل الروايات تتموضع على نطاق spectrum من العادي إلى الاستثنائي. وأن الحكاية، أي حكاية ومنذ بداية نشأتها، كانت في الغالب عملية احتفاء بالاستثنائي؛ منذ أساطير الخلق السومرية وحتى روايات ستيفن كينغ.


إن حكاية ما، تمثل في الغالب، انقطاعًا في النمط. أي أن النموذج الأكثر شيوعًا في الأدب القصصي هو أن تكتب خروج الشمس من مغربها، بدلًا من أن تكتب عن العملية المكررة القابلة للتنبؤ لشروق الشمس المألوف، إلا إذا قررت أن تجعلني أرى، في الشروق المألوف، زاوية جديدة. هذه ثلاث خيارات للكتابةِ عن شروق الشمس؛ العادي، أو الاستثنائي. أو الاستثنائي في العادي.


أريد أن أضيف خيارًا رابعًا؛ العاديّ في الاستثنائي. روايات الواقعية السحرية، مئة عام من العزلة مثلا.

اعتدنا أن تمثل الحكاية انقطاعًا في النمط، (سواء تحدثنا عن انقطاعات موت ساراماغو، أو تحول غريغوري سامسا، أو عن پيترپان بصفته طفلًا لا يكبر).


في الجانب الآخر، سنجد روايات نادرة نجحت في "كتابة النمط" نفسه. روايات عظيمة، مثل ثلاثية محفوظ، أو نهر الزمن لـ يو هوا، أو ستونر لـ جون وليامز. روايات ترصد حيوات شخوصها في انسراب الزمن من بين أياديها.


بين القطبين القاطعين، بين العادي المطلق والاستثنائي المطلق، أجد ذائقتي تقف في صفّ الرواية التي تجعل العاديّ استثنائيًا..

سأنحاز دائمًا لسانتياغو نصّار الذي قتل على مرأى من الجميع في عاديةٍ لا معقولة، أكثر من انحيازي للمرأة التي صعدت إلى السماء بالاستعانة بملاءات السرير.

بمعنى آخر؛ لن أحب (مئة عام من العزلة) أكثر من (قصة موت معلن)، ستكون تلك خيانة.

بقلم: بثينة العيسى


ليست هناك تعليقات