ضع اعلان هنا

اخر الأخبار

ماركيز: عن الهوس التأويلي ومُدرسي الأدب السيئين


 بقلمغابرييل غارسيا ماركيز     ترجمة: حيدرة أسعد

أخطرَ أستاذُ مادة الأدب الابنةَ الصغرى لصديقٍ مُقرب إلي، بأن امتحانها النهائي سيتمحور حول روايتي “مئة عامٍ من العُزلة”. كانت الفتاةُ خائفة، ليس فقط لأنه لم يسبق أن قرأت الرواية، بل لأنها كانت تصب اهتمامها على موضوعاتٍ أخرى أكثر أهمية من ذلك. ولحسن الحظ، كانت لأبيها ثقافةٌ أدبية متينة ترفدها روحٌ شعرية مرهفة لا تتوفر عند الجميع، ولذلك فقد أخضعها لتحضير مكثف جعلها تتقدم للامتحان، بلا شك، أكثرَ كفاءةٍ من أستاذها. لكنه طرح عليها سؤالًا غير مُتوقع: إلامَ يشيرُ الحرفٌ المعكوس في عنوان الرواية “مئة عامٍ من العُزلة”؟ وكان يقصدُ طبعة بيونس إيريس التي صمم غلافَها الفنان ﭬينست روجو، الذي عكس أحد حروف الكلمة الأخيرة من العنوان منفذًا ما أملاه عليه إلهامه الخالص والرصين، لكن الفتاة، بالطبع، لم تستطع الإجابة عن السؤال. وعندما طرحتُ على ﭬينست روجو ذات مرة السؤال نفسه، أجابني بأنه، أيضًا، لا يعرف!


في العام نفسه، تقدم ولدي غونزالو لامتحان قبول في لندن، وكان عليه الإجابة عن بعض الأسئلة الأدبية، واحد من تلك الأسئلة كان ينطوي على تحديد الرمز الذي يشير إليه الديك في قصتي “ليس لدى الجنرال من يكاتبه”. لم يستطِع غونزالو الذي تطبع بأسلوب العائلة أن يقاوم إغراء ممازحة الأستاذِ الغريب، ليجيب: “إنه ديك البيض الذهبي”. عرفنا لاحقًا أن الطالب الذي نال أعلى درجة كان قد أجاب، كما علمه أستاذه، أن ديك الجنرال يشير إلى القوة المكبوتة للشعب. وقد فرحتُ حين اكتشفتُ ذلك، لأنني أدركتُ أن نجم حظي كان لامعًا حين غيرتُ في اللحظة الأخيرة نهاية القصة التي كنتُ قد خططتُ لها، والتي كانت تتمثل في أن يجلخ الجنرال رقبة ذلك الديك، ويـحضرُ منه حساء "الاحتجاج"!


أمضيتُ سنواتٍ أجمعٌ هذه الدُّرر التي اعتاد أساتذة الأدب السيئون تضليل الطلاب بها. أعرفُ أحدًا منهم كان يعتقدُ بحسن نية أن الجدة البدينة الشـرهة عديمة الرحمة التي كانت تستغل أرانديرا الطيبة[1] لتحصيل الديون هي رمز للرأسمالية النهمة. وثمة معلم كاثوليكي درس طلابه أن صعود ريميديوس الجميلة[2] إلى السماء هو صياغة شعرية لصعود مريم العذراء جسدًا وروحًا. معلم آخر درس صفًّا كاملًا أن هربرت، إحدى شخصيات قصـصي، والذي كان يحل مشكلات الناس ويعطيهم الأموال، “هو استعارة بديعة للإله“ على حد زعمه. وقد فاجأني ناقدان من برشلونة باكتشافهما أن روايتي “خريف البطريرك” لها بناءٌ يحاكي هكيل كونشـرتو الپيانو الثالث لبيلا بارتوك، وقد أبهجني ذلك كثيرًا بسبب عشقي لبيلا بارتوك ولذلك الكـونشرتو على وجه الخصوص، لكنني ما زلتُ عاجزًا عن فهم التشابهات بين العملَين التي توصل إليها الناقدان!


هذا وأمضى پروفسور في الأدب في مدرسة هاﭬانا للآداب ساعاتٍ عدة في تحليل روايتي “مئة عامٍ من العُزلة”، وقد توصل أخيرًا إلى استنتاجٍ ممتعٍ ومحبطٍ في آن، هو أن الرواية لا تقدم حلًّا. وهذا ما جعلني أوقن بأن الهوس التأويلي يودي إلى شكل جديد من الخيال ينتهي به المطاف إلى ملاحظاتٍ حمقاء.


مؤكد أنني قارئ ساذج، لأنني لم أعتقد يومًا أن الروائي يرمي إلى قول أشياء أخرى أكثر مما يكتب، فعندما قال فرانز كافكا إن غريغوري سامسا استيقظَ في إحدى الصباحات وقد تحول إلى حـشرةٍ عملاقة، لم يُخيل لي أن في ذلك رمز لشيء ما، بل إن ما أثار اهتمامي على الدوام هو نوع الحـشرة التي صارها غريغوري. أصدق بأن البساط السحري كان يطير، وأن داخل المصباح السحري ثمة عفريت مُحتجز. وكذلك أصدق بأن حمار بلعام تكلمَ –كما يخبرنا الكتاب المقدس– والأمر الوحيد الذي يثير أسفي هو أن صوته لم يُسجل، وأصدق أيضًا أن يشوع حطم أسوار أريحا بقوة أبواقه (أو القرون كما جاء في رواية العهد القديم)، والأمر الوحيد الذي يثير أسفي هو أن أحدًا لم يُدون الرموز الموسيقية للحن الهدم الذي نُفخ حينئذٍ. وللأمانة، أصدق أن المحامي الزجاجي (أو الرجل الزجاجي كما تُرجمت) –لثربانتس– كان حقًّا مخلوقًا من الزجاج، كما كان يؤمن هو بجنونه. وأيضًا أعتقدُ أن هناك عجائبَ أخرى مماثلةً لا تزالُ تحدث وإنْ كنا لا نراها، فذلك لأن العقلانية الظلامية التي غرسها فينا أساتذة الأدب السيئون قد أعمت بصائرنا.


إنني أكن احترامًا عظيمًا ومودة أعظم لمهنة الـمُعلم، وهذا ما يؤلمني حقا، لأنهم أيضًا ضحايا نظامٍ تعليمي يجبرهم على التفوه بمثل تلك التفاهات. إن تلك المعلمة التي أرشدتني إلى القراءة وأنا في سن الخامسة لها علي فضلٌ لا أنساه أبدًا، كانت امرأةً ودودًا رزينةً لم تتظاهرْ بأنها تعرف أكثر مما تعرف فعلًا، وكانت صغيرة السن لدرجة أنها أصبحت، بمرور الوقت، أصغر سنًّا مني، لقد ألقتْ على أسماعنا في الصف القصائد الأولى، تلك القصائد التي ستنغرس في وعيي إلى الأبد. أتذكرُ بالامتنانِ نفسه أستاذ الأدب في المدرسة الثانوية، وقد كان رجلًا حصيفًا ومتواضعًا، أطلقنا في متاهات الكُتب الثمينة دون أن يُثقلنا بتفسيرٍ مبتذل أو تأويل متكلف. لقد مكن هذا الأسلوبُ الطلابَ من خوض تجربةٍ حرة وذاتية في استذاقة الشعر وسحره. وباختصار، إن حصة الأدب لا ينبغي لها أن تكون أكثر من دليلٍ للمطالعة، وأي فذلكاتٍ أخرى ليست إلا لترهيب الطلاب. هذا ما أراه، من هنا، من الحجرة الخلفية.

ليست هناك تعليقات