ضع اعلان هنا

اخر الأخبار

على هامش الحقيقة والكتابة..

في بداية 2013 أخبرتني صديقة، درست في الولايات المتحدة، بأن هناك “مركزًا لتعليم الكتابة” في الجامعة التي تخرَّجت فيها. كانت ردَّة فعلي الأولى: ولكن، لا يمكننا تعليم الكتابة! صديقتي ردَّت ببساطة: بلى، يمكن ذلك.

كنتُ حتى ذلك الحين قد كتبتُ ونشرت خمس روايات ومجموعة قصصية واحدة، دون أن يعلِّمني أحدٌ أي شيءٍ. لقد كنت “كاتبًا ساذجًا” بتعريف باموق، وكنتُ أكتب “بشكلٍ فطري”، دون أدنى فكرة عما أفعله. في تلك الليلة قررتُ أن أجيب بنفسي على هذا السؤال. رحتُ أجوب الإنترنت طوال الوقت، لأجد ما كان مفقودًا، أو مُغيَّبًا تقريبًا، في ثقافتنا العربية: ورش عمل، معسكرات ومعتكفات للكتَّاب، محترفات نقدية وسردية، منح وبرامج ماجستير وبكاليريوس في الكتابةِ الإبداعية، ووجدتُ أيضًا، بسرور بالغ، مئات العناوين عن الصنعة وأدواتها. كتَّاب كنتُ أظنهم “عباقرة وموهوبين فحسب” شاركوا وأشرفوا على ورش عمل لإنتاج القصة وكتابة السيناريو: إيزابيل الليندي، ماركيز، وآخرون.

يمكن القولُ بأن الأمر قد سبَّب لي “صدمة ثقافية”، فأنا سليلة الثقافة العربية، التي تتبنى أفكارًا ميتافيزيقية أو غيبية عن الكتابة. نحن نلجأ، بأريحية مطلقة، إلى تفسيراتٍ ماورائية لكل ما نكتب: الوحي، الإلهام، وادي عبقر، شيطان الشعر. إن لدينا إرثًا ثقيلًا في هذا المضمار، ولهذا السبب، تبدو فكرة التدريب الإبداعي، مثل ضربٍ من الهرطقة. ولآخرين، تبدو شيئًا من قبيل التكسُّب والاستغلال، ويشعر البعض إزاءها كما لو كنَّا نبيع السمك في البحر، والطير في السماء.

لهذا السبب أيضًا، يكتبُ الكثير من الكتَّاب العرب عن الكتابة كما لو كانت حبيبة. إنهم يتغنون بلحظة السحر ونشوة الوصول، وهو الأمر الجميل في ذاتِه، ولكنهم يرتبكون تقريبًا إذا سألتهم “كيف”.

لقد أخافتني الفكرة، هل يمكنُ تعليم الكتابة؟ وقررتُ في ذلك الحين، أن أجرِّب الأمر بنفسي. اخترتُ موضوع الكتابة الوصفية، وبحثتُ في الأمر، حتى توصلت إلى مجموعة من الأدوات، ثم أعلنتُ عن ورشة العمل الأولى التي حملت عنوان هذا الكتاب: الحقيقة والكتابة.

اتبعتُ منهجًا بسيطًا، لا زلتُ أجدهُ فعَّالًا في كل ورشة عمل أقدِّمها. قررتُ أن أعود إلى نصوصٍ أحبها، وأكتشف سرَّ جمالها. لا يحبُّ معظمنا هذه اللعبة، وقد شعرت البشرية بخيبة أملٍ عارمة عندما اكتشفت بأن القمر المضيء في السماء والذي يوقظ الذئاب في دمائنا، هو مجرد كتلة حجارة. وأن قوس قزح هو ضوءٌ أبيضٌ متشظٍّ إلى سبعة ألوان. إن كل كشفٍ يتضمن بالضرورة عملية تدنيس، ولا أحد يحبُّ أولئك الذين يحاولون مَنطَقَة السِّحر، أو تفسيره. كلنا نفضل أن ننظر إلى السَّحرة وهم يستلون الأرانب من القبعات حتى يسعنا أن نصفِّق. كلنا تقريبًا، إلا الساحر الحقيقي، وحده سيرغب بتعلُّم الخدعة.

منذ ذلك الحين، وهذا بالضبط ما أفعله. أشعر بالدهشة أمام رواية، فقرة، أو حتى سطر واحدٍ. ثم أغمض عيني وأستلُّ نفسًا عميقًا وأتجاسر لكي أدخل إلى منطقة النص المحرمة لأعرف كيف حدث ما حدث. تحت طبقة اللغة البراقة سنجد العتلات والفرامل والتروس. إن أمبرتو إيكو على حقٍّ، النَّص هو آلة. واكتشافُ ذلك، بالنسبة إليَّ، لم يجعل النصوص التي أحبها أقل سحرًا، بل أكثر.
عدتُ إلى تلك الفقرات التي كنت أضع خطوطًا أسفلها أثناء القراءة. تأملتها طويلًا، وببطءٍ شديد، أصبحت قادرة على أن أستلَّ الأداة من النموذج. لطالما اتبعت هذا المنهج، حيث النص سابق على الأداة، وليست الأداة موجودة قبل النص. من شأن ذلك أن يجعلنا نكتشف أدواتٍ أكثر، بكل تأكيد، والأهم أنه يبقينا في المنطقة الرمادية التي يحتاجها التدريب الإبداعي، حيث الأدوات هي احتمالات، وليست قوانين، ويمكن لأداةٍ أن تنقض الأخرى، وأن علينا أن نتعلم القاعدة حتى ننجح في كسرها، وهو المكان الذي يبدأ منهُ الفن.

بعد عدة أشهر من ذلك الحوار مع صديقتي، قدمت ورشة عملي الأولى لكي أكتشف، بنفسي، إذا ما كانت الورش ضربًا من بيع السمك في البحر، أم أنها تنجحُ فعلًا. في نهاية الورشة، قررتُ أن أتفرغ تمامًا لما أحب: كتابة الروايات، تعلُّم كتابة الروايات، وتقديم ورش عمل عن كتابة الروايات! لقد اتضح لي، وعلى مستوًى شخصي في الدرجة الأولى، أن ورشة عملٍ ناجحة بإمكانها اختصار سنواتٍ وسنواتٍ من التطوُّر البطيء، الذي يحدث بتراكم القراءات في اللاوعي.

لا يمكن لورشة عمل أن تصنع كاتبًا. هذا أول شيءٍ أقوله مع كل ورشة. نحن لا نصنع الكتَّاب من العدم. إنني أؤمن بما سمَّاه يوسا “الميل الفطري إلى الأدب” والذي يسمِّيه البعض الآخر “الموهبة”. ولكنني أعرفُ بأن التعويل على الموهبة وحدها يمكن أن يكون خطرًا على الكاتب، لأنه قد يمضي حياته في الكتابة بأدواتٍ بعينها، لكونه بارعًا فيها، ويفوِّت على نفسه مساحاتٍ من التجريب واللعب والمتعة، لأنها غير آمنة. لقد التقيتُ في حياتي الكثير من الكتَّاب الذين قرروا، مثلًا، أنهم لن يستخدموا “صوت الراوي العليم” أبدًا، بغض النظر عن حاجة النص. إنهم غير مرتاحين مع هذه الأداة، فهي كبيرة على مقاسهم.

إن ورشة عملٍ ناجحة لا بدَّ وأن تستوجب عددًا من الشروط: أولًا، وجود وفرة من النماذج القرائية التي تُستخلص منها الأداة بما لا يصنع، فقط، كاتبًا أكثر حساسية، بل وقارئًا حساسًا أيضًا. ثانيًا، أن ندرك منذ البدء بأنها أدوات، وليست قوانين. ثالثًا، ألا نجادل في المسائل الذوقية. رابعًا، أن يعي المشترك بأن الورشة لا تعني امتلاكه للأدوات، بل تسعى إلى رفع قابليته لامتلاكها. امتلاك أداةٍ ما يتحقق، بعد الورشة، بالتمرين، وهذا يعني ساعات وساعات من القراءة والكتابة. رابعًا، من الخطأ أن نعمِّم موقفًا بعينه، لمجرد أنني أحب مذهب ستيفن كينغ للحبكة، فهذا لا يعني إقصاء مذهب نجيب محفوظ. ولمجرد أنني أميل إلى الراوي الذاتي، لا يمكنني أن أنفي الراوي العليم. إن ما تفعله ورش العمل هو التعريف بهذه الأدوات، وتوفرها للمشترك بصفتها خياراتٍ لا نهائية، تمامًا كما يملك الفنان التشكيلي كل الحق في استخدام فرشاة غليظة مصنوعة من ذيل الحصان، أو فرشاةً رفيعة بخيطين، أو من يدري، ربما كسرة فحم. إن ما تحققه الورش هو أنها تجعل الأدوات اللغوية، المجردة، مرئية أمام الكاتب. إنها تضاعف حساسية الكاتب في مرحلة (ما قبل الكتابة)، ومرحلة (ما بعد الكتابة)، مع التشديد البالغ على أهمية عدم المساس بالكاتب الساذج، الفطري، الذي يحافظ على حرارة النَّص.

مرَّت خمس سنواتٍ على ذلك اليوم. خمس سنواتٍ وأنا أقدِّم ورش العمل في الكتابة الروائية. حتى جاءت ولادة تكوين، من حساب إنستغرام إلى مكتبة، ودار نشر، ومحترف لاحتضان ورش العمل والكتَّاب الراغبين في تجويد وفهم أسرار الصنعة. ولكن كل شيءٍ بدأ من هنا، من الكتابة الوصفية!

في البداية، كنتُ أظنني سأتحدث عن الوصف فحسب. وعلى مدى خمس سنوات، ومع كل رواية أكتبها، وأقرؤها، وكل ورشة عمل أقدمها، صرتُ أعرف بأن الحديث عن الجزئي لا يمكن أن يتم بمعزلٍ عن الكلي، وأن الحديث عن الوصف لا يمكن أن يحدث بمعزلٍ عن كتابة الرواية بأسرها، منذ السطر الأول، وحتى السطر الأخير.

كم هي ساحرة هذه الآلة التي يسمونها النص الأدبي، أليس كذلك؟

 بثينة العيسى

ليست هناك تعليقات